“إن الحرية لا تقبل التجزئة ..لأن القيود التي تكبل شخصاً واحداً في بلادي إنما هي قيود تكبل أبناء وطني أجمعين”
مانديلا :
إن المتأمل في تاريخ البشرية، المنقب في تراثها الغني، الباحث عن جوهر
التاريخ ودروسه، لابد وأن يستوقفه مدى الظلم والحيف والجشع الذي يلطخ تاريخ
البشرية عبر مسارها الطويل، ذلك
الجزء من التاريخ الذي صنعه الطغاة والبرابرة والعنصريون ، مستندين إلى شهوة الدم والقتل مستمدين شريعتهم من الجيوش والآلات والسجون، رافعين سلاح الشر والباطل ، متشربين قيم
البطش والقتل والاستبداد ،ليقتلوا قيم الحرية والعدالة والمساواة المتأصلة في جوهر الإنسان ،تلك القيم التي تشكل الجوهر الحي للإنسان ووجوده على الأرض، وتمثل الجذر القوي للديانات
والفلسفات والنظريات مذ وجد الإنسان على الأرض، كما أنها تعد الجزء الثاني والحي من التاريخ ، تاريخ الفقراء والمهمشين والمناضلين والأحرار،المسلحين بقوة الحق، المضمخين
بتراث الحرية وقيم العدالة والتنوير،الرافعين شعار البحث عن مستقبل أفضل وحياة أجمل، لكل
البشر ، بغض النظر عن ألوانهم ومعتقداتهم وأديانهم ، حياة قوامها العدل والحرية والمساواة لا حياة الذل والقهر والاستبداد.
وما تاريخ الإنسان عبر مساره الطويل، إلا تاريخ النضال المسلح بقوة الأمل من أجل الوصول
إلى الحرية، تلك الكلمة السحرية التي سقط الكثير من المناضلين على دروبها من أجل أن يحيا
الإنسان حرا كريما. ولكل أمة من أمم الأرض أبطالها وأحرارها الذين غدوا مثلا وقدوة للأحرار
على مدى التاريخ البشري، منهم من ضحى بدمه ليروي شجرة الحرية،ومنهم من غيبته السجون
سنيناً طوال، ومنهم من عرفته شوارع المنافي والجبال والغربة ، بدءا من سقراط وتجرعه سم
الحرية ،إلى ابن عربي والحلاج اللذين استشهدا لتحيا حرية الكلمة، إلى أبطال الثورة الفرنسية،
إلى لينين الذي قاد ثورة اكتوبر، وغاندي و باتريس لوممبا وماو تسي تونغ ، ونلسون مانديلا (زهرة الربيع السوداء) التي توجت تاريخ القرن العشرين بأعظم مثال عن صراع الإنسان
ونضاله من أجل الحرية، بعد نضال دام نصف قرن ، أمضى منها سبعة وعشرين عاما داخل السجن، ليزيح واحدة من أسوأ النقط السوداء التي لطخت تاريخ البشرية، نظام التفرقة العنصرية
الذي حكم جنوب افريقية لمدة ثلاثة قرون،ذلك البلد الغني بثرواته ومناجمه وطبيعته الذي ربما بدأت مشاكله مذ رأى البحارة البرتغاليون صخور رأس الرجاء الصالح التي تقسم المياه إلى
محيطين هما المحيط الأطلنطي والهندي، حين هتف قائد الأسطول (بارتلو لميو دياز):
- (إنه أروع مشهد يمكن أن يراه بشر).
بعد سفينة دياز بعشرة أعوام، سلك فاسكو داجاما نفس الطريق، وهو يبحث عن ممر آمن يقوده
إلى الهند، ولم تكتشف أهميتها إلا في القرن السادس عشر أثناء الصراع الإنكليزي الهولندي من
أجل السيطرة على بحار العالم ، حين هبط جان فان رابيك عام 1625 إلى الشاطئ، ليشرف
على إقامة مزارع للمستوطنين الهولنديين الذين بدأ عددهم يزيد بعد انضمام أعداد من المتشددين
الدينيين من ألمانيا وفرنسا ، باحثين عن أرض بكر وخصبة، فبدؤوا بالابتعاد عن الساحل
والتوغل في عمق الغابات ولم يكن معهم إلا العربات الخشبية التي تجرها الخيول، وبعض
البنادق إضافة إلى الإنجيل ،كانوا متطهرين وقساة، لا يترددون في إطلاق النار بلا رحمة على
القبائل البدائية التي كانت تجرؤ على الظهور في طريقهم .
وفي عام 1957 قررت بريطانيا امتلاك (كاب تاون) حتى تقطع على فرنسا الطريق إلى الهند ،
وقد استغرق ذلك مدة طويلة ومقاومة شرسة من البوير الأفريكانيين أصحاب، العربات الذين
عبروا نهر البرتقال، وأسسوا أربع جمهوريات قصيرة العمر انتهت بتكوين جمهورية جنوب
افريقية بعد توقيع معاهدة سلام بين البريطانيين والأفريكان ،معاهدة لم تعترف إلا بحقوق البيض
فقط وتركت 80بالمئة من سكان البلاد والملونين ، لم تعطهم أي حقوق سياسية ولم تحررهم من
العبودية مم أثار موجة كبيرة من الإحباط لدى السود والملونين، الأمر الذي ساهم بإيقاظ الوعي
الأسود وخاصة مع تزايد عدد عمال المناجم ،الذين أصبحت جنوب أفريقيا بسبهم تنتج ثلث ذهب
العالم وهنا بدأت الحركات والأحزاب السياسية الأفريقية بالتكون لتحمل لواء النضال من أجل
الحرية ومنها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي تأسس عام 1912 ( قبل 6 سنوات من ولادة
مانديلا ) على يد جون دوبي، وهو الحزب الذي سينتسب إليه مانديلا بعد أكثر من ربع قرن
لمواصلة نضال أسلافه من أجل الحرية، ليتداخل تاريخ بلاده مع تاريخه الشخصي، وليغدو جزءا
من تاريخ البشرية ( فتاريخ حياته جزء من التاريخ العام الذي دخله بالجلد والتواضع وإعلاء
الروح الإنسانية ) 1.
فكتابه( رحلتي الطويلة من أجل الحرية) ،تاريخ يتقاطع مع التاريخ العام ويتوازى مع المحطات
الكبرى التي مرت بها جنوب أفريقيا، بدءا من عام ولادته 1918 ( السنة التي زار فيها وفد عن
حزب المؤتمر الوطني الأفريقي مؤتمر فرساي للسلام لطرح مظالم الشعب الأفريقي في جنوب
أفريقيا )2، إلى تاريخ إقليم ترانسكاي، وقبائل الكوسا ونسبها ،إلى جوهانسبيرغ ،وبريتوريا
،وجزيرة روبن التي تحولت إلى مزار سياحي، بعد أن كانت منفى للمصابين بالجذام، ثم منفى
لأحرار جنوب شرق أسيا ، ثم أصبحت سجن طويل الأمد لكل السود الحالمين بغد مشرق،إضافة
إلى تاريخ المؤتمر الوطني الأفريقي ، وولادة إمكا ( رمح الأمة ) وكلها محطات
هامة في تاريخ جنوب افر يقيا ونيلسون مانديلا معاً، حيث يتوازى الشخصي مع العام والذاتي
مع الموضوعي ، ليتوحدا في مشروع واحد، قوامه النضال من أجل الحرية والعدالة وهنا النقطة
الأهم التي تميّز بها القائد الكبير مانديلا فهو لم يعتبر نفسه جسماً منفصلاً عن التاريخ أو نيزكا ً
شاردا عن الشعب ،بل يؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأنه ابن لهذا الشعب العظيم الذي استمر
نضاله ثلاثة قرون. وما نضاله الشخصي إلا استكمالا لنضال الرجال الذين سبقوه والذين سمع
عنهم في طفولته أبطال الكوسا العظام من أمثال شاكا وماكوما وماكانا حيث يقول : ( بينما كان
والدي يروي لنا قصص المعارك التاريخية وبطولات قدماء المحاربين من أبناء الكوسا كانت
أمي تتغنى بأساطير الكوسا وملامحهم وأساطيرهم التي تعود إلى أجيال غابرة، وكانت تلك
القصص تثير خيالي الغض لما كانت تحمله من مغاز عميقة ومتنوعة ) 3.
كما أن نضاله ليس سوى استمرار لنضال أبيه الذي وقف في وجه الحاكم الذي طلب حضوره
بسبب خلاف على الماشية قائلا :
( _ لن أحضر لأنني أتوشح سيفي استعدادا للمعركة
أراد والدي بجوابه ذاك أن يبّين أنه ليس للحاكم المحلي سلطان شرعي عليه وبأنّه في الشؤون
القبيلية لا يلتزم بقوانين ملك إنكلترا ولكن بتقاليد التيمبو وأعرافهم ) 4.
في الوقت الذي التزم والده بتقاليد التيمبو فقط ،وسّع مانديلا التزاماته لتشمل جنوب أفريقيا بكاملها
منصتاً لأمالها، ومتطلعاً إلى تخليص شعبهاـ بيضاً وسوداـ من كل عذاباتهم، آخذاً بيدهم نحو
العدل والمساواة، ساعياً لتحقيق ديموقراطية تعلّم أولى أبجدياتها، مذ كان طفلا في
المكان العظيم عندما كان يتم الاجتماع لمناقشة مشاكل الإقليم . 5
ولعل أهم ما يميز مانديلا ذلك التواضع الجم الذي يميز مسيرته، فهو لا يدّعي العلم بكل شيء بل
يتعلم من كل ما يصادفه في حياته درساً ما ،يضيفه إلى تجاربه وعلومه، فهو يتعلم من السجن
والحياة والخصم والسجان والرؤساء والكتب بل نراه في صباه يتعلم حتى من الحمار إذ يقول
بتواضع : ( وبعد أن أهانني الحمار أدركت أن إهانة الآخرين معاناة لا داعي لها وتعلمت منذ
صغري أن أنتصر على خصومي ولكن دون الإساءة الى كراماتهم ) 6.
ونراه يتعلم من الحب عندما أحب ديدي التي تعمل خادمة في البيوت، وهي حبه الثالث فيقول بعد
أن يتردد في إعلامها بحبه : ( إن التعقل في السياسة فضيلة، ولكن ليس كذلك في الحب ) 7
إن ذلك النهم للمعرفة والتعلم من كل شيء هو الذي سيطبع شخصيته ،ويجعل منه قائداً مرناً قابلاً
للتكيف مع الظروف والمعاناة ،وسيجعل منه إنساناً مقارعاً للظلم مناضلاً من أجل إعطاء كل ذي
حق حقه، وفياً مع الآخرين ومع ذاته، عصامياً، محاوراً، مدافعاً عن حقوق الآخرين ولو كانوا
خصوما ،فنراه في سيرته الذاتية لا يدّعي البطولة لوحده بل يسرد أسماء كل الذين ناضلوا الى
جانبه وقتلوا في سبيل قضيتهم، ولا يتورع عن الإشادة بمن كان لهم فضل كبير في النضال بل
ويعتبر إن الكثيرين أفضل منه ولعل أفضل اللحظات نبلاً وإنسانية ووفاء عندما تخبره زوجته
ويني خبر وفاة المحامي برام فيشر، فيصفه بكلمات ملؤها الألم والخشوع : ( كانت اللحظة
الوحيدة المحزنة في تلك الزيارة عندما أخبرتني ويني بوفاة برام فيشر متأثرا بمرض السرطان
(……) كان برام نقي المذهب وقرر بعد محاكمة ريفونيا أن العمل السري هو أفضل وسيلة يخدم
بها النضال (……) لم يكن برام ليطالب غيره بتضحيات لم يكن هو شخصيا مستعداً لتقديمها
(……) مهما عانيت أنا في سبيل الحرية فقد كنت أستمد قوتي من أنني أناضل الى جانب قومي
ومن أجلهم أما برام فقد كان إنسانا حرا حارب قومه لضمان حرية الآخرين ) 8
ولم يكتف مانديلا بذلك بل كان دائم الإيمان والبحث عن الحقيقة حتى لو كانت موجودة
لدى خصومه أو حلفائه، فيعترف بها ويؤيدها ويتبناها أحيانا، فنراه يقول عند نجاح إضراب
الهنود عام 1964 : ( ما سجله المواطنون الهنود من احتجاج رائع ضد الاضطهاد العنصري
أفضل بكثير مما قام به الافريقيون أنفسهم من خلال المؤتمر الوطني الافريقي ) 9
القرار الشجاع ونكران الذات
أكثر ما يميز مانديلا هو ذلك الحس التاريخي المرهف باللحظة التاريخية التي ينبغي فيها على
القائد أن يتخذ فيها قراره بتغيير طريقة النضال لإيمانه بأن حرية الشعب معلّقة عليه ولأن القائد
يستطيع من تجاربه أن يقرأ الواقع بدقه محللاً معطياته، وقارئاً متغيراته ومستشرفاً ما يجب أن
يكون، وهذا ما نراه في عدة محطات تاريخية هامة ومفصلية في حياة مانديلا وتاريخ جنوب
أفريقيا، فعند انتهاء الحرب العالمية الثانية فاز الحزب القومي الأبيض بانتخابات 1949 على
أساس إقرار قوانين التفرقة العنصرية، وقد حرمت هذه القوانين الزواج المختلط والسكن في
أماكن واحدة، وأكدت على فصل كل أنواع الخدمات، حتى إن التصريح بدخول المدن الكبرى لم
يكن يتم إلا بتصريح خاص وإذا وجد أسود في الشارع بعد الساعة الخامسة يطلق علية النار فورا
في هذه اللحظة التاريخية، لم يعد النضال السلمي مجديا، وأصبح عديم الفاعلية ولابد من اتخاذ
قرار جريء بتغيير أسلوب النضال وإتباع أسلوب العنف المسلح، بدل اللا عنف الذي تبناه
الزعيم الهندي غاندي في الهند، ولكن المشكلة أن حزب المؤتمر الوطني الافريقي، هو حزب
لا يؤمن بالكفاح المسلح، فلابد من تغيير جوهري في الحزب، وهذا ما يقرره مانديلا مع عدد من
أصدقائه باتخاذ القرار التاريخي الشجاع بإحداث منظمة إمكا ( رمح الأمة ) ذلك القرار الذي
سيغير تاريخ جنوب أفريقيا بعد نصف قرن من اتخاذه .
واللافت هنا وعي مانديلا الحقيقي للتاريخ والواقع، ورمالهما المتحركة، فهو لا يتعصب لقرار ما
أو رأي أو فكرة، فهو يدرك جيدا أ ن لكل مرحلة تاريخية أساليب نضالها المختلفة حيث لايركن
لصحة قرار ما اتخذه، بل يبقى يتفحصه ويعيد النظر به ليتأكد من مدى استمرارية صوابه
وجدواه، وإذا ما رأى أنه استنفذ الجدوى منه يتخلى عنه دون أسف أو ندم، فبعد خمس وثلاثين
عاما من الكفاح المسلح نجده عام 1985 في سجن بو للسمور، يعيد النظر في أسلوب الكفاح
المسلح قائلاً : ( حاربنا حكم الأقلية البيضاء ثلاثة أرباع قرن، وخضنا النضال المسلح لأكثر من
عقدين من الزمن ،أزهقت أرواح كثيرة من الطرفين، وظل العدو محافظاً على قوته وتصميمه
(…..) فالحق في صفنا ولكننا لا نملك القوة بعد، وأصبح واضحاً في ذهني أن النصر العسكري
حلم بعيد إن لم يكن مستحيلا، والواقع أنه لم يعد من الحكمة أو المعقول أن يستمر الطرفان في
فقدان ألاف _ إن لم نقل ملايين _ الأرواح في حرب لا ضرورة لها )10
وهنا يتخذ قراره الشجاع الثاني بالحوار مع العدو، لإيمانه العميق بأن ذلك لمصلحة شعبه وبلده
متجاوزاً قرار الحزب وأصدقائه لإيمانه العميق بأنّ مصلحة الوطن والشعب أعلى من مصلحة
الحزب والعائلة والقبيلة وكثيراً ما وقف مانديلا موقفاً محايداً لغير مصلحة حزبه أو أهله أو رفقاء
سجنه فعندما كان في جزيرة روبن حصل صراع سياسي بين سجناء القسم العام ونشبت
منازعات بين أعضاء المؤتمر الوطني الافريقي والقومي الافريقي وحركة الوعي بالهوية
السوداء وتعرض عدد من أعضاء حزبه للضرب ورفعت دعاوى وطلب منه أن يكون شاهد
تزكيه فيما يتعلق في سلوك المتهمين ففضل الوقوف على الحياد من أجل وحدة النضال التي يؤمن
بها إذ يقول : ( فإذا كنت أدعو الى الوحدة فيجب عليّ أن أتصرف كرجل يؤمن بالوحدة ولو كان
ذلك على حساب علاقتي ببعض زملائي من داخل الحزب ) 11
كذلك الأمر عندما يصل الخلاف بينه وبين زوجته الأولى ايفلين الى ذروته، وتخيره بين أسرته
ونضاله السياسي فيختار النضال، ليس لأنه يريد أن يضحي بأسرته وأولاده بل لأنه يدرك أن لا
معنى لحياته وحياة أولاده في ظل نظام عنصري لا يعترف بأبسط أسس الحياة البشرية،وذلك
رغم قساوة هذا القرار على وجدانه وقلبه ومشاعره، كأب إذ نراه يصف الأمر بكلمات تتقطر
حزنا وألما : ( كان لنهاية زواجي أثر مؤلم خاصة على الأطفال وخلّف في نفوسهم جروحا عميقة
(……) كان موقفا في غاية الألم والقسوة ) 12
ومما لاشك فيه أن هذه المواقف لا يتخذها إلا رجل عشق الحرية، وعرف عذابات شعبه وذاقها
وأدرك أن لا معنى للحياة بدون الحرية، لذا كانت معاناته تزداد مع معاناة أهله وأحبائه وفقرهم
وعملهم في الأرياف والمناجم وخاصة في مدينة جوهانسبيرغ (إيغولي) مدينة الذهب وسميت
بهذا الاسم لأن الصخور التي رصفت شوارعها كانت من منجم (كراون) أغنى منجم على وجه
الأرض، ولا يبتعد هذا الوصف عن الحقيقة، فالأحجار الصماء مليئة بشذرات الذهب الذي
اكتشف عام 1886 عندما( وجد مستكشف استرالي قطعة من الصخر توجد فيها آثار من الذهب
وكان شديد الإفلاس لدرجة أنه باع اكتشافه بالمكان الذي وجد فيه هذه الصخرة بعشرة جنيهات
استرليني فقط ولم يدر بأنه بهذا الثمن البخس قد باع سلسلة من الصخور تحتوي على أغنى عرق
ذهب في العالم).13
وخلال شهور قليلة تدفق على المنطقة ألاف الحفارين والأفاقين والقساوسة ، كلهم جاؤوا يركبون
العربات التي تجرها الخيول ومنها اكتسبوا اسمهم، فكلمة البوير تعني بالهولندية راكبو
العربات، هؤلاء الرجال ذوي الفكر العنصري الذي كان ضحيته السكان الأصليين الذين كان
مانديلا واحدا منهم ، تلك العنصرية الجائرة التي جعلت منه رجلا شرسا في دفاعه عن الحرية
منذ ولادته وطفولته وصباه، إذ كان ميالا منذ البدء إلى رفض كل ما يمس حريته بتقييد حتى لو
كان من قومه فنراه عندما كان في المكان العظيم مكيكيزويني، واختار له السلطان يونجينتابا
زوجة دون رأيه ، نراه يهرب تاركا السلطان ومكتسباته وحياته المريحة ولم يكن الأمر برأيي
مجرد هروب من الزواج، بقدر ما كان دفاع عن الحرية التي سيسلبها منه هذا الزواج.
وكذلك الأمر في فورت هير 1960 عندما قرر مع رفاقه مقاطعة الانتخابات الطلابية ما لم يتم
زيادة صلاحيات المجلس الطلابي، فيتم انتخابه للمجلس دون علمه، فيستقيل ثم يتم انتخابه مرة
ثانية فيستقيل لوحده هذه المرة، وعندما يواجه الدكتور كير يقول له:(لا أستطيع أن أرضي
ضميري بالاحتفاظ بعضوية المجلس الطلابي)14
وحول نفس الأمر يكتب : ( وجدت من الصعب القبول بفكرة أن أضحي بما أراه التزاما مني نحو
الطلاب لمجرد إرضاء مصلحتي الشخصية)15
هذا الإيثار الذي تميز به مانديلا وهذه الروح المقاومة،التي انتمت إلى مصالح الشعب والمهمشين
هي نفسها التي ستبقى معه ويخوض غمار النضال متسلحاً بها لمواجهة خصمه، مترفعاً عن
مصالحه الشخصية وذاته في سبيل حرية الآخرين، سنراه داخل السجن صلباً لا يلين ، مؤمناً بقوة
الخير في البشر ، مناوراً السجانين ومحاوراً لهم في آن ولكن دون أن يضحي أو يساوم على مبدأ
الحرية.
ولعل قمة إيثاره وتضحيته تتجلى عندما أعلن الرئيس بوتا عن استعداده لإطلاق سراحه من
السجن شرط أن يتخلى عن الكفاح المسلح، نجده يرفض ذلك قائلا في الخطاب الذي ألقته نيابة
عنه ابنته زندزي ،مسجلا بذلك أروع السطور وأجمل آيات النضال التي قيلت في الحرية على
مدى تاريخ البشر: (ماذا تعني تلك الحرية التي يعرضونها علي إذا ظل حزب كل الشعب
محظورا؟ وماذا تعني تلك الحرية التي سأعيش بمقتضاها مع أسرتي وما تزال زوجتي مبعدة….
وعليه فلن أتعهد بشيء مادمت لا أملك حريتي ومادمتم أنتم يا أبناء هذا الشعب لا تملكون
حريتكم، فحريتكم هي حريتي ولا يمكن الفصل بينهما . إنني عائد)16
وهنا نرى أقصى مراحل نكران الذات التي تميز هذا القائد العظيم، فهو رغم العذاب والسجن
والنفي والمعاناة الطويلة يرفض أن يتنازل عن أي جزء من حريته لإيمانه العميق بأن الحرية لا تجزأ.
تفاصيل لا بد منها
يظن المر للوهلة الأولى أن هذا المناضل ، لم يكن يشغله سوى النضال والحرية والقضايا
الكبرى والعمل المسلح ومعاناة شعبه، ولكن ما يفاجئنا به مانديلا أن تلك القضايا رغم أهميتها لم
تكن تشغله عن تفاصيل الحياة اليومية المتعلقة بالأسرة والأهل والأولاد والأم والحبيبة ،إذ نراه
عاشقاً ممتازاً حيث تزوج ثلاث مرات ونراه أباً حنونا دائم التفكير بأولاده وأمه وأهله وقبيلته
ومسقط رأسه ، يفكر بهم أثناء النضال وخلال فترة التخفي وخلال سنوات السجن الطويلة ، الأمر
الذي يكشف عن رحابة روحه التي تتسع للكثير من الحب والأمل والآخرين الذين يفكر بهم دائما،
فنراه لحظة خروجه إلى الحرية بعد عشرة آلاف يوم سجن، بدل أن يفكر بحريته ، يتألم لأنه لم
يستطيع أن يودع حراس السجن، وكذلك عندما يعتقل للمرة الأولى أمام أسرته وأبنائه الصغار لا
يفكر بما ينتظره من معاناة وألم وعذاب ، بل نراه يتأمل وقع الاعتقال على أرواحهم البريئة ونراه
في السجن دائم البحث عن جذور الخير في نفوس السجانين، ومحاولة محاكاة ذلك الجانب الخير
وإيقاظه لإيمانه العميق بالأساس الفطري للإنسان، فبعد مغادرة مدير سجن جزيرة روبن
بادينهورست، وهو أقسى سجان مرّ على الجزيرة ،قال لمانديلا: - أتمنى لكم حظا سعيدا..
كانت كافية هذه العبارة لاستغراب مانديلا ودهشته في آن، إذ يقول: ( ذكرني ذلك بأن في أعماق
كل إنسان حتى أكثر الناس وحشية وقوة قدراً من الإنسانية، وأنه بإمكان كل إنسان أن يتغير إذا ما
لمست جوانب الخير في قلبه ونفسه )17
ولعل أقسى اللحظات التي عاشها مانديلا على الصعيد الشخصي، كانت عندما تلقى خبر وفاة
والدته وابنه وهو في السجن ، فنجده في اشد لحظات الحزن والتجلي والتفكير والتأمل ،
يستعرض الماضي ويقيم حياته متسائلا: ( هل كان اختياري وتقديم مصلحة الآخرين على
مصلحتي الشخصية ومصلحة أسرتي اختيارا صائبا؟)18
ولكن رغم كل المعاناة والألم والأسى لم يكن مانديلا يرضخ للحزن ويأنس إليه، إذ سرعان ماكان
يطرده بقوة الأمل والعزيمة على استمرار الحياة وعدم الرضوخ لعدوه ، حيث نراه يقدس الفرح
والحب والحياة ويحيط اللحظات السعيدة في حياته بكثير من العناية والحب ويتذكرها بشغف
حار،إذ يصف لمسه لزوجته داخل السجن بعد واحد وعشرين عاما من السجن:( وفجأة دخلت
عليّ ووجدتها بين أحضاني ، عانقت زوجتي وقبلتها لأول مرة بعد تلك السنوات الطويلة .إنها
اللحظة التي راودتني في الحلم ألف مرة ومرة ، وأحسست أني لازلت في حلم. أسلمت نفسي لها
ونسيت كل ما حولي، وصمت كل شيء عدا قلبي وقلبها)19
ولم يكن اهتمام مانديلا بالحب والحياة عن عبث ، بل لأنه كان يدرك تمام الإدراك بأن معركته
مع عدوه هي معركة إنسانية وأخلاقية بالدرجة الأولى، لأن عدوه إذ يسلبه حريته فهو يسلبه حبه
وزوجته وسعادته وإنسانيته ، لذا كان مانديلا مصرا على أن لا يجعل عدوه ينتصر عليه حتى في
الحب والإنسانية، وهذا شأن كل المناضلين الكبار الذين نذروا حياتهم من أجل حرية شعوبهم،
وما يلفت النظر هنا هو ذلك التشابه إلى حد ما بين معاناة ونضال هؤلاء الأحرار على الأقل من
ناحية السجن والعذاب والتشرد والتضحية التي تصل حد الشهادة من أجل أن تحيا أوطانهم حرة
كريمة، مع اختلاف في أساليب النضال المتبعة بين مناضل وآخر تبعا للظروف الخاصة بكل بلد
، ورغم ذلك نجد تشابها بين نلسون مانديلا وتشي غيفارا في التضحية إذ تخلى كل منهما عن
بحبوحة الحياة الخاصة من أجل قضايا أمنوا بها بكل جوارحهم ،إذ كان غيفارا طبيبا من عائلة
برجوازية، وكان لمانديلا موقعه في قبيلة الكوسا الذي يؤهله ليعمل مستشارا لولي العهد ، وكان
كل منهما عاشقا من الطراز الرفيع ، كذلك الأمر من حيث اعتماد الكفاح المسلح أسلوبا لمقاومة
الظلم والطغيان ،رغم أن مانديلا كان في البداية متماهيا مع أسلوب اللا عنف الذي اتخذه
غاندي في الهند أسلوبا لنضاله ولكن غاندي يتشابه مع مانديلا في السمو الروحي والأخلاقي الذي
كان سمة نضالهما من أجل الحرية، وتمثل ذلك في الإيمان العميق بجوهر الخير في الإنسان ،
والنظرة الإنسانية لا العدوانية للخصم ، والإيمان بالحب كقيمة مشتركة وعليا للبشر والعمل على
توحيد نضال الجميع بما يخدم الجميع، ونراه يتشابه مع فيدل كاسترو في وصول كل منهما إلى
سدة الرئاسة، بعد محاكمات وسجن ونفي ونضال مرير ، رغم أن كاسترو سيبقى في الرئاسة ،
بينما مانديلا سيعزف عنها بعد أن حاول جهده في فترة رئاسته ليرسي أسس الوحدة الوطنية ،
ويزلل الخلافات ويضع وطنه على سكة الحرية، ثم يستقيل ليتفرغ لحياته الطبيعية كإنسان عادي
لا كأسطورة، فنراه يجيب بعد أن سئل عما سيفعله بعد تقاعده:
( سأفعل كل الأشياء التي فاتتني : أن أكون مع أولادي وأحفادي وعائلتي وأجلس وأقرأ ما أود
قراءته، إن قضاء سبعة وعشرين عام في السجن هو مأساة إلا أن إحدى فوائده كانت إمكانية
الجلوس والتفكير وهذا احد الأمور التي أفتقدها كثيرا)20
وهنا نرى قمة التواضع من رجل بإمكانه أن يمتلك كل شيء ، لكنه يختار بكل تواضع العزوف
عن السلطة ، لكي يحيا حياة هادئة بعيدة عن الأسطرة ، الأمر الذي يجعل من حياته ونضاله
تاريخا مفتوحا للبشرية جمعاء، لنتعلم منها الكثير من الدروس، خاصة نحن العرب الذين نعيش
إلى جانب آخر دولة عنصرية في العالم وهي إسرائيل التي مازالت تمارس أقصى حالات
العنصرية بحق الشعب الفلسطيني، وما بناء الجدار الفاصل الذي وقف مانديلا شخصيا ضد بنائه،
إلا دليل على عنصرية هذه الدولة التي زرعها الاستعمار في بلدنا وأرضنا العربية، ولا يمكن أن
ننسى وقوف مانديلا ضد غزو العراق ، ذلك الموقف الشجاع الذي سيسجله التاريخ له ، ولن
ننساه أبدا كعرب.
تبقى معاناة مانديلا شاهداً حيا على استمرار النضال في هذا العالم من أجل الحرية والخير
والعدالة، ولعل أهم ما نتعلمه منه هو ذلك الإصرار والأمل الذي يجب أن يتسلح به المرء وهو
يناضل من أجل الحرية، كما أنه يجب على المرء أن يسخر كل شيء من أجل نضاله وأن يكون
واعياً لحركة التاريخ وتكيكاته، وان يعمل دائما على معرفة عدوه وخصمه والبحث عن مكامن
الخير حتى عند الأعداء، ويتعلم المرء أن طريق الحرية طويل لا ينتهي أبدا وأن المعركة من
أجل الحب والحياة السعيدة هي نفسها المعركة من أجل الحرية التي كانت الهاجس الأكبر لمانديلا
: الرمز الحي للتاريخ البشري، وقلعة الحرية المضيئة على طول العالم، الرئيس الذي سيبقى في
ذاكرتنا كمثال حي للنضال ضد كل أشكال الهيمنة والاستبداد ، وستبقى كلماته زادا لنا لمواصلة
نضالنا من أجل العزة والكرامة والمستقبل. .. وداعا .. مانديلا
الجزء من التاريخ الذي صنعه الطغاة والبرابرة والعنصريون ، مستندين إلى شهوة الدم والقتل مستمدين شريعتهم من الجيوش والآلات والسجون، رافعين سلاح الشر والباطل ، متشربين قيم
البطش والقتل والاستبداد ،ليقتلوا قيم الحرية والعدالة والمساواة المتأصلة في جوهر الإنسان ،تلك القيم التي تشكل الجوهر الحي للإنسان ووجوده على الأرض، وتمثل الجذر القوي للديانات
والفلسفات والنظريات مذ وجد الإنسان على الأرض، كما أنها تعد الجزء الثاني والحي من التاريخ ، تاريخ الفقراء والمهمشين والمناضلين والأحرار،المسلحين بقوة الحق، المضمخين
بتراث الحرية وقيم العدالة والتنوير،الرافعين شعار البحث عن مستقبل أفضل وحياة أجمل، لكل
البشر ، بغض النظر عن ألوانهم ومعتقداتهم وأديانهم ، حياة قوامها العدل والحرية والمساواة لا حياة الذل والقهر والاستبداد.
وما تاريخ الإنسان عبر مساره الطويل، إلا تاريخ النضال المسلح بقوة الأمل من أجل الوصول
إلى الحرية، تلك الكلمة السحرية التي سقط الكثير من المناضلين على دروبها من أجل أن يحيا
الإنسان حرا كريما. ولكل أمة من أمم الأرض أبطالها وأحرارها الذين غدوا مثلا وقدوة للأحرار
على مدى التاريخ البشري، منهم من ضحى بدمه ليروي شجرة الحرية،ومنهم من غيبته السجون
سنيناً طوال، ومنهم من عرفته شوارع المنافي والجبال والغربة ، بدءا من سقراط وتجرعه سم
الحرية ،إلى ابن عربي والحلاج اللذين استشهدا لتحيا حرية الكلمة، إلى أبطال الثورة الفرنسية،
إلى لينين الذي قاد ثورة اكتوبر، وغاندي و باتريس لوممبا وماو تسي تونغ ، ونلسون مانديلا (زهرة الربيع السوداء) التي توجت تاريخ القرن العشرين بأعظم مثال عن صراع الإنسان
ونضاله من أجل الحرية، بعد نضال دام نصف قرن ، أمضى منها سبعة وعشرين عاما داخل السجن، ليزيح واحدة من أسوأ النقط السوداء التي لطخت تاريخ البشرية، نظام التفرقة العنصرية
الذي حكم جنوب افريقية لمدة ثلاثة قرون،ذلك البلد الغني بثرواته ومناجمه وطبيعته الذي ربما بدأت مشاكله مذ رأى البحارة البرتغاليون صخور رأس الرجاء الصالح التي تقسم المياه إلى
محيطين هما المحيط الأطلنطي والهندي، حين هتف قائد الأسطول (بارتلو لميو دياز):
- (إنه أروع مشهد يمكن أن يراه بشر).
بعد سفينة دياز بعشرة أعوام، سلك فاسكو داجاما نفس الطريق، وهو يبحث عن ممر آمن يقوده
إلى الهند، ولم تكتشف أهميتها إلا في القرن السادس عشر أثناء الصراع الإنكليزي الهولندي من
أجل السيطرة على بحار العالم ، حين هبط جان فان رابيك عام 1625 إلى الشاطئ، ليشرف
على إقامة مزارع للمستوطنين الهولنديين الذين بدأ عددهم يزيد بعد انضمام أعداد من المتشددين
الدينيين من ألمانيا وفرنسا ، باحثين عن أرض بكر وخصبة، فبدؤوا بالابتعاد عن الساحل
والتوغل في عمق الغابات ولم يكن معهم إلا العربات الخشبية التي تجرها الخيول، وبعض
البنادق إضافة إلى الإنجيل ،كانوا متطهرين وقساة، لا يترددون في إطلاق النار بلا رحمة على
القبائل البدائية التي كانت تجرؤ على الظهور في طريقهم .
وفي عام 1957 قررت بريطانيا امتلاك (كاب تاون) حتى تقطع على فرنسا الطريق إلى الهند ،
وقد استغرق ذلك مدة طويلة ومقاومة شرسة من البوير الأفريكانيين أصحاب، العربات الذين
عبروا نهر البرتقال، وأسسوا أربع جمهوريات قصيرة العمر انتهت بتكوين جمهورية جنوب
افريقية بعد توقيع معاهدة سلام بين البريطانيين والأفريكان ،معاهدة لم تعترف إلا بحقوق البيض
فقط وتركت 80بالمئة من سكان البلاد والملونين ، لم تعطهم أي حقوق سياسية ولم تحررهم من
العبودية مم أثار موجة كبيرة من الإحباط لدى السود والملونين، الأمر الذي ساهم بإيقاظ الوعي
الأسود وخاصة مع تزايد عدد عمال المناجم ،الذين أصبحت جنوب أفريقيا بسبهم تنتج ثلث ذهب
العالم وهنا بدأت الحركات والأحزاب السياسية الأفريقية بالتكون لتحمل لواء النضال من أجل
الحرية ومنها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي تأسس عام 1912 ( قبل 6 سنوات من ولادة
مانديلا ) على يد جون دوبي، وهو الحزب الذي سينتسب إليه مانديلا بعد أكثر من ربع قرن
لمواصلة نضال أسلافه من أجل الحرية، ليتداخل تاريخ بلاده مع تاريخه الشخصي، وليغدو جزءا
من تاريخ البشرية ( فتاريخ حياته جزء من التاريخ العام الذي دخله بالجلد والتواضع وإعلاء
الروح الإنسانية ) 1.
فكتابه( رحلتي الطويلة من أجل الحرية) ،تاريخ يتقاطع مع التاريخ العام ويتوازى مع المحطات
الكبرى التي مرت بها جنوب أفريقيا، بدءا من عام ولادته 1918 ( السنة التي زار فيها وفد عن
حزب المؤتمر الوطني الأفريقي مؤتمر فرساي للسلام لطرح مظالم الشعب الأفريقي في جنوب
أفريقيا )2، إلى تاريخ إقليم ترانسكاي، وقبائل الكوسا ونسبها ،إلى جوهانسبيرغ ،وبريتوريا
،وجزيرة روبن التي تحولت إلى مزار سياحي، بعد أن كانت منفى للمصابين بالجذام، ثم منفى
لأحرار جنوب شرق أسيا ، ثم أصبحت سجن طويل الأمد لكل السود الحالمين بغد مشرق،إضافة
إلى تاريخ المؤتمر الوطني الأفريقي ، وولادة إمكا ( رمح الأمة ) وكلها محطات
هامة في تاريخ جنوب افر يقيا ونيلسون مانديلا معاً، حيث يتوازى الشخصي مع العام والذاتي
مع الموضوعي ، ليتوحدا في مشروع واحد، قوامه النضال من أجل الحرية والعدالة وهنا النقطة
الأهم التي تميّز بها القائد الكبير مانديلا فهو لم يعتبر نفسه جسماً منفصلاً عن التاريخ أو نيزكا ً
شاردا عن الشعب ،بل يؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأنه ابن لهذا الشعب العظيم الذي استمر
نضاله ثلاثة قرون. وما نضاله الشخصي إلا استكمالا لنضال الرجال الذين سبقوه والذين سمع
عنهم في طفولته أبطال الكوسا العظام من أمثال شاكا وماكوما وماكانا حيث يقول : ( بينما كان
والدي يروي لنا قصص المعارك التاريخية وبطولات قدماء المحاربين من أبناء الكوسا كانت
أمي تتغنى بأساطير الكوسا وملامحهم وأساطيرهم التي تعود إلى أجيال غابرة، وكانت تلك
القصص تثير خيالي الغض لما كانت تحمله من مغاز عميقة ومتنوعة ) 3.
كما أن نضاله ليس سوى استمرار لنضال أبيه الذي وقف في وجه الحاكم الذي طلب حضوره
بسبب خلاف على الماشية قائلا :
( _ لن أحضر لأنني أتوشح سيفي استعدادا للمعركة
أراد والدي بجوابه ذاك أن يبّين أنه ليس للحاكم المحلي سلطان شرعي عليه وبأنّه في الشؤون
القبيلية لا يلتزم بقوانين ملك إنكلترا ولكن بتقاليد التيمبو وأعرافهم ) 4.
في الوقت الذي التزم والده بتقاليد التيمبو فقط ،وسّع مانديلا التزاماته لتشمل جنوب أفريقيا بكاملها
منصتاً لأمالها، ومتطلعاً إلى تخليص شعبهاـ بيضاً وسوداـ من كل عذاباتهم، آخذاً بيدهم نحو
العدل والمساواة، ساعياً لتحقيق ديموقراطية تعلّم أولى أبجدياتها، مذ كان طفلا في
المكان العظيم عندما كان يتم الاجتماع لمناقشة مشاكل الإقليم . 5
ولعل أهم ما يميز مانديلا ذلك التواضع الجم الذي يميز مسيرته، فهو لا يدّعي العلم بكل شيء بل
يتعلم من كل ما يصادفه في حياته درساً ما ،يضيفه إلى تجاربه وعلومه، فهو يتعلم من السجن
والحياة والخصم والسجان والرؤساء والكتب بل نراه في صباه يتعلم حتى من الحمار إذ يقول
بتواضع : ( وبعد أن أهانني الحمار أدركت أن إهانة الآخرين معاناة لا داعي لها وتعلمت منذ
صغري أن أنتصر على خصومي ولكن دون الإساءة الى كراماتهم ) 6.
ونراه يتعلم من الحب عندما أحب ديدي التي تعمل خادمة في البيوت، وهي حبه الثالث فيقول بعد
أن يتردد في إعلامها بحبه : ( إن التعقل في السياسة فضيلة، ولكن ليس كذلك في الحب ) 7
إن ذلك النهم للمعرفة والتعلم من كل شيء هو الذي سيطبع شخصيته ،ويجعل منه قائداً مرناً قابلاً
للتكيف مع الظروف والمعاناة ،وسيجعل منه إنساناً مقارعاً للظلم مناضلاً من أجل إعطاء كل ذي
حق حقه، وفياً مع الآخرين ومع ذاته، عصامياً، محاوراً، مدافعاً عن حقوق الآخرين ولو كانوا
خصوما ،فنراه في سيرته الذاتية لا يدّعي البطولة لوحده بل يسرد أسماء كل الذين ناضلوا الى
جانبه وقتلوا في سبيل قضيتهم، ولا يتورع عن الإشادة بمن كان لهم فضل كبير في النضال بل
ويعتبر إن الكثيرين أفضل منه ولعل أفضل اللحظات نبلاً وإنسانية ووفاء عندما تخبره زوجته
ويني خبر وفاة المحامي برام فيشر، فيصفه بكلمات ملؤها الألم والخشوع : ( كانت اللحظة
الوحيدة المحزنة في تلك الزيارة عندما أخبرتني ويني بوفاة برام فيشر متأثرا بمرض السرطان
(……) كان برام نقي المذهب وقرر بعد محاكمة ريفونيا أن العمل السري هو أفضل وسيلة يخدم
بها النضال (……) لم يكن برام ليطالب غيره بتضحيات لم يكن هو شخصيا مستعداً لتقديمها
(……) مهما عانيت أنا في سبيل الحرية فقد كنت أستمد قوتي من أنني أناضل الى جانب قومي
ومن أجلهم أما برام فقد كان إنسانا حرا حارب قومه لضمان حرية الآخرين ) 8
ولم يكتف مانديلا بذلك بل كان دائم الإيمان والبحث عن الحقيقة حتى لو كانت موجودة
لدى خصومه أو حلفائه، فيعترف بها ويؤيدها ويتبناها أحيانا، فنراه يقول عند نجاح إضراب
الهنود عام 1964 : ( ما سجله المواطنون الهنود من احتجاج رائع ضد الاضطهاد العنصري
أفضل بكثير مما قام به الافريقيون أنفسهم من خلال المؤتمر الوطني الافريقي ) 9
القرار الشجاع ونكران الذات
أكثر ما يميز مانديلا هو ذلك الحس التاريخي المرهف باللحظة التاريخية التي ينبغي فيها على
القائد أن يتخذ فيها قراره بتغيير طريقة النضال لإيمانه بأن حرية الشعب معلّقة عليه ولأن القائد
يستطيع من تجاربه أن يقرأ الواقع بدقه محللاً معطياته، وقارئاً متغيراته ومستشرفاً ما يجب أن
يكون، وهذا ما نراه في عدة محطات تاريخية هامة ومفصلية في حياة مانديلا وتاريخ جنوب
أفريقيا، فعند انتهاء الحرب العالمية الثانية فاز الحزب القومي الأبيض بانتخابات 1949 على
أساس إقرار قوانين التفرقة العنصرية، وقد حرمت هذه القوانين الزواج المختلط والسكن في
أماكن واحدة، وأكدت على فصل كل أنواع الخدمات، حتى إن التصريح بدخول المدن الكبرى لم
يكن يتم إلا بتصريح خاص وإذا وجد أسود في الشارع بعد الساعة الخامسة يطلق علية النار فورا
في هذه اللحظة التاريخية، لم يعد النضال السلمي مجديا، وأصبح عديم الفاعلية ولابد من اتخاذ
قرار جريء بتغيير أسلوب النضال وإتباع أسلوب العنف المسلح، بدل اللا عنف الذي تبناه
الزعيم الهندي غاندي في الهند، ولكن المشكلة أن حزب المؤتمر الوطني الافريقي، هو حزب
لا يؤمن بالكفاح المسلح، فلابد من تغيير جوهري في الحزب، وهذا ما يقرره مانديلا مع عدد من
أصدقائه باتخاذ القرار التاريخي الشجاع بإحداث منظمة إمكا ( رمح الأمة ) ذلك القرار الذي
سيغير تاريخ جنوب أفريقيا بعد نصف قرن من اتخاذه .
واللافت هنا وعي مانديلا الحقيقي للتاريخ والواقع، ورمالهما المتحركة، فهو لا يتعصب لقرار ما
أو رأي أو فكرة، فهو يدرك جيدا أ ن لكل مرحلة تاريخية أساليب نضالها المختلفة حيث لايركن
لصحة قرار ما اتخذه، بل يبقى يتفحصه ويعيد النظر به ليتأكد من مدى استمرارية صوابه
وجدواه، وإذا ما رأى أنه استنفذ الجدوى منه يتخلى عنه دون أسف أو ندم، فبعد خمس وثلاثين
عاما من الكفاح المسلح نجده عام 1985 في سجن بو للسمور، يعيد النظر في أسلوب الكفاح
المسلح قائلاً : ( حاربنا حكم الأقلية البيضاء ثلاثة أرباع قرن، وخضنا النضال المسلح لأكثر من
عقدين من الزمن ،أزهقت أرواح كثيرة من الطرفين، وظل العدو محافظاً على قوته وتصميمه
(…..) فالحق في صفنا ولكننا لا نملك القوة بعد، وأصبح واضحاً في ذهني أن النصر العسكري
حلم بعيد إن لم يكن مستحيلا، والواقع أنه لم يعد من الحكمة أو المعقول أن يستمر الطرفان في
فقدان ألاف _ إن لم نقل ملايين _ الأرواح في حرب لا ضرورة لها )10
وهنا يتخذ قراره الشجاع الثاني بالحوار مع العدو، لإيمانه العميق بأن ذلك لمصلحة شعبه وبلده
متجاوزاً قرار الحزب وأصدقائه لإيمانه العميق بأنّ مصلحة الوطن والشعب أعلى من مصلحة
الحزب والعائلة والقبيلة وكثيراً ما وقف مانديلا موقفاً محايداً لغير مصلحة حزبه أو أهله أو رفقاء
سجنه فعندما كان في جزيرة روبن حصل صراع سياسي بين سجناء القسم العام ونشبت
منازعات بين أعضاء المؤتمر الوطني الافريقي والقومي الافريقي وحركة الوعي بالهوية
السوداء وتعرض عدد من أعضاء حزبه للضرب ورفعت دعاوى وطلب منه أن يكون شاهد
تزكيه فيما يتعلق في سلوك المتهمين ففضل الوقوف على الحياد من أجل وحدة النضال التي يؤمن
بها إذ يقول : ( فإذا كنت أدعو الى الوحدة فيجب عليّ أن أتصرف كرجل يؤمن بالوحدة ولو كان
ذلك على حساب علاقتي ببعض زملائي من داخل الحزب ) 11
كذلك الأمر عندما يصل الخلاف بينه وبين زوجته الأولى ايفلين الى ذروته، وتخيره بين أسرته
ونضاله السياسي فيختار النضال، ليس لأنه يريد أن يضحي بأسرته وأولاده بل لأنه يدرك أن لا
معنى لحياته وحياة أولاده في ظل نظام عنصري لا يعترف بأبسط أسس الحياة البشرية،وذلك
رغم قساوة هذا القرار على وجدانه وقلبه ومشاعره، كأب إذ نراه يصف الأمر بكلمات تتقطر
حزنا وألما : ( كان لنهاية زواجي أثر مؤلم خاصة على الأطفال وخلّف في نفوسهم جروحا عميقة
(……) كان موقفا في غاية الألم والقسوة ) 12
ومما لاشك فيه أن هذه المواقف لا يتخذها إلا رجل عشق الحرية، وعرف عذابات شعبه وذاقها
وأدرك أن لا معنى للحياة بدون الحرية، لذا كانت معاناته تزداد مع معاناة أهله وأحبائه وفقرهم
وعملهم في الأرياف والمناجم وخاصة في مدينة جوهانسبيرغ (إيغولي) مدينة الذهب وسميت
بهذا الاسم لأن الصخور التي رصفت شوارعها كانت من منجم (كراون) أغنى منجم على وجه
الأرض، ولا يبتعد هذا الوصف عن الحقيقة، فالأحجار الصماء مليئة بشذرات الذهب الذي
اكتشف عام 1886 عندما( وجد مستكشف استرالي قطعة من الصخر توجد فيها آثار من الذهب
وكان شديد الإفلاس لدرجة أنه باع اكتشافه بالمكان الذي وجد فيه هذه الصخرة بعشرة جنيهات
استرليني فقط ولم يدر بأنه بهذا الثمن البخس قد باع سلسلة من الصخور تحتوي على أغنى عرق
ذهب في العالم).13
وخلال شهور قليلة تدفق على المنطقة ألاف الحفارين والأفاقين والقساوسة ، كلهم جاؤوا يركبون
العربات التي تجرها الخيول ومنها اكتسبوا اسمهم، فكلمة البوير تعني بالهولندية راكبو
العربات، هؤلاء الرجال ذوي الفكر العنصري الذي كان ضحيته السكان الأصليين الذين كان
مانديلا واحدا منهم ، تلك العنصرية الجائرة التي جعلت منه رجلا شرسا في دفاعه عن الحرية
منذ ولادته وطفولته وصباه، إذ كان ميالا منذ البدء إلى رفض كل ما يمس حريته بتقييد حتى لو
كان من قومه فنراه عندما كان في المكان العظيم مكيكيزويني، واختار له السلطان يونجينتابا
زوجة دون رأيه ، نراه يهرب تاركا السلطان ومكتسباته وحياته المريحة ولم يكن الأمر برأيي
مجرد هروب من الزواج، بقدر ما كان دفاع عن الحرية التي سيسلبها منه هذا الزواج.
وكذلك الأمر في فورت هير 1960 عندما قرر مع رفاقه مقاطعة الانتخابات الطلابية ما لم يتم
زيادة صلاحيات المجلس الطلابي، فيتم انتخابه للمجلس دون علمه، فيستقيل ثم يتم انتخابه مرة
ثانية فيستقيل لوحده هذه المرة، وعندما يواجه الدكتور كير يقول له:(لا أستطيع أن أرضي
ضميري بالاحتفاظ بعضوية المجلس الطلابي)14
وحول نفس الأمر يكتب : ( وجدت من الصعب القبول بفكرة أن أضحي بما أراه التزاما مني نحو
الطلاب لمجرد إرضاء مصلحتي الشخصية)15
هذا الإيثار الذي تميز به مانديلا وهذه الروح المقاومة،التي انتمت إلى مصالح الشعب والمهمشين
هي نفسها التي ستبقى معه ويخوض غمار النضال متسلحاً بها لمواجهة خصمه، مترفعاً عن
مصالحه الشخصية وذاته في سبيل حرية الآخرين، سنراه داخل السجن صلباً لا يلين ، مؤمناً بقوة
الخير في البشر ، مناوراً السجانين ومحاوراً لهم في آن ولكن دون أن يضحي أو يساوم على مبدأ
الحرية.
ولعل قمة إيثاره وتضحيته تتجلى عندما أعلن الرئيس بوتا عن استعداده لإطلاق سراحه من
السجن شرط أن يتخلى عن الكفاح المسلح، نجده يرفض ذلك قائلا في الخطاب الذي ألقته نيابة
عنه ابنته زندزي ،مسجلا بذلك أروع السطور وأجمل آيات النضال التي قيلت في الحرية على
مدى تاريخ البشر: (ماذا تعني تلك الحرية التي يعرضونها علي إذا ظل حزب كل الشعب
محظورا؟ وماذا تعني تلك الحرية التي سأعيش بمقتضاها مع أسرتي وما تزال زوجتي مبعدة….
وعليه فلن أتعهد بشيء مادمت لا أملك حريتي ومادمتم أنتم يا أبناء هذا الشعب لا تملكون
حريتكم، فحريتكم هي حريتي ولا يمكن الفصل بينهما . إنني عائد)16
وهنا نرى أقصى مراحل نكران الذات التي تميز هذا القائد العظيم، فهو رغم العذاب والسجن
والنفي والمعاناة الطويلة يرفض أن يتنازل عن أي جزء من حريته لإيمانه العميق بأن الحرية لا تجزأ.
تفاصيل لا بد منها
يظن المر للوهلة الأولى أن هذا المناضل ، لم يكن يشغله سوى النضال والحرية والقضايا
الكبرى والعمل المسلح ومعاناة شعبه، ولكن ما يفاجئنا به مانديلا أن تلك القضايا رغم أهميتها لم
تكن تشغله عن تفاصيل الحياة اليومية المتعلقة بالأسرة والأهل والأولاد والأم والحبيبة ،إذ نراه
عاشقاً ممتازاً حيث تزوج ثلاث مرات ونراه أباً حنونا دائم التفكير بأولاده وأمه وأهله وقبيلته
ومسقط رأسه ، يفكر بهم أثناء النضال وخلال فترة التخفي وخلال سنوات السجن الطويلة ، الأمر
الذي يكشف عن رحابة روحه التي تتسع للكثير من الحب والأمل والآخرين الذين يفكر بهم دائما،
فنراه لحظة خروجه إلى الحرية بعد عشرة آلاف يوم سجن، بدل أن يفكر بحريته ، يتألم لأنه لم
يستطيع أن يودع حراس السجن، وكذلك عندما يعتقل للمرة الأولى أمام أسرته وأبنائه الصغار لا
يفكر بما ينتظره من معاناة وألم وعذاب ، بل نراه يتأمل وقع الاعتقال على أرواحهم البريئة ونراه
في السجن دائم البحث عن جذور الخير في نفوس السجانين، ومحاولة محاكاة ذلك الجانب الخير
وإيقاظه لإيمانه العميق بالأساس الفطري للإنسان، فبعد مغادرة مدير سجن جزيرة روبن
بادينهورست، وهو أقسى سجان مرّ على الجزيرة ،قال لمانديلا: - أتمنى لكم حظا سعيدا..
كانت كافية هذه العبارة لاستغراب مانديلا ودهشته في آن، إذ يقول: ( ذكرني ذلك بأن في أعماق
كل إنسان حتى أكثر الناس وحشية وقوة قدراً من الإنسانية، وأنه بإمكان كل إنسان أن يتغير إذا ما
لمست جوانب الخير في قلبه ونفسه )17
ولعل أقسى اللحظات التي عاشها مانديلا على الصعيد الشخصي، كانت عندما تلقى خبر وفاة
والدته وابنه وهو في السجن ، فنجده في اشد لحظات الحزن والتجلي والتفكير والتأمل ،
يستعرض الماضي ويقيم حياته متسائلا: ( هل كان اختياري وتقديم مصلحة الآخرين على
مصلحتي الشخصية ومصلحة أسرتي اختيارا صائبا؟)18
ولكن رغم كل المعاناة والألم والأسى لم يكن مانديلا يرضخ للحزن ويأنس إليه، إذ سرعان ماكان
يطرده بقوة الأمل والعزيمة على استمرار الحياة وعدم الرضوخ لعدوه ، حيث نراه يقدس الفرح
والحب والحياة ويحيط اللحظات السعيدة في حياته بكثير من العناية والحب ويتذكرها بشغف
حار،إذ يصف لمسه لزوجته داخل السجن بعد واحد وعشرين عاما من السجن:( وفجأة دخلت
عليّ ووجدتها بين أحضاني ، عانقت زوجتي وقبلتها لأول مرة بعد تلك السنوات الطويلة .إنها
اللحظة التي راودتني في الحلم ألف مرة ومرة ، وأحسست أني لازلت في حلم. أسلمت نفسي لها
ونسيت كل ما حولي، وصمت كل شيء عدا قلبي وقلبها)19
ولم يكن اهتمام مانديلا بالحب والحياة عن عبث ، بل لأنه كان يدرك تمام الإدراك بأن معركته
مع عدوه هي معركة إنسانية وأخلاقية بالدرجة الأولى، لأن عدوه إذ يسلبه حريته فهو يسلبه حبه
وزوجته وسعادته وإنسانيته ، لذا كان مانديلا مصرا على أن لا يجعل عدوه ينتصر عليه حتى في
الحب والإنسانية، وهذا شأن كل المناضلين الكبار الذين نذروا حياتهم من أجل حرية شعوبهم،
وما يلفت النظر هنا هو ذلك التشابه إلى حد ما بين معاناة ونضال هؤلاء الأحرار على الأقل من
ناحية السجن والعذاب والتشرد والتضحية التي تصل حد الشهادة من أجل أن تحيا أوطانهم حرة
كريمة، مع اختلاف في أساليب النضال المتبعة بين مناضل وآخر تبعا للظروف الخاصة بكل بلد
، ورغم ذلك نجد تشابها بين نلسون مانديلا وتشي غيفارا في التضحية إذ تخلى كل منهما عن
بحبوحة الحياة الخاصة من أجل قضايا أمنوا بها بكل جوارحهم ،إذ كان غيفارا طبيبا من عائلة
برجوازية، وكان لمانديلا موقعه في قبيلة الكوسا الذي يؤهله ليعمل مستشارا لولي العهد ، وكان
كل منهما عاشقا من الطراز الرفيع ، كذلك الأمر من حيث اعتماد الكفاح المسلح أسلوبا لمقاومة
الظلم والطغيان ،رغم أن مانديلا كان في البداية متماهيا مع أسلوب اللا عنف الذي اتخذه
غاندي في الهند أسلوبا لنضاله ولكن غاندي يتشابه مع مانديلا في السمو الروحي والأخلاقي الذي
كان سمة نضالهما من أجل الحرية، وتمثل ذلك في الإيمان العميق بجوهر الخير في الإنسان ،
والنظرة الإنسانية لا العدوانية للخصم ، والإيمان بالحب كقيمة مشتركة وعليا للبشر والعمل على
توحيد نضال الجميع بما يخدم الجميع، ونراه يتشابه مع فيدل كاسترو في وصول كل منهما إلى
سدة الرئاسة، بعد محاكمات وسجن ونفي ونضال مرير ، رغم أن كاسترو سيبقى في الرئاسة ،
بينما مانديلا سيعزف عنها بعد أن حاول جهده في فترة رئاسته ليرسي أسس الوحدة الوطنية ،
ويزلل الخلافات ويضع وطنه على سكة الحرية، ثم يستقيل ليتفرغ لحياته الطبيعية كإنسان عادي
لا كأسطورة، فنراه يجيب بعد أن سئل عما سيفعله بعد تقاعده:
( سأفعل كل الأشياء التي فاتتني : أن أكون مع أولادي وأحفادي وعائلتي وأجلس وأقرأ ما أود
قراءته، إن قضاء سبعة وعشرين عام في السجن هو مأساة إلا أن إحدى فوائده كانت إمكانية
الجلوس والتفكير وهذا احد الأمور التي أفتقدها كثيرا)20
وهنا نرى قمة التواضع من رجل بإمكانه أن يمتلك كل شيء ، لكنه يختار بكل تواضع العزوف
عن السلطة ، لكي يحيا حياة هادئة بعيدة عن الأسطرة ، الأمر الذي يجعل من حياته ونضاله
تاريخا مفتوحا للبشرية جمعاء، لنتعلم منها الكثير من الدروس، خاصة نحن العرب الذين نعيش
إلى جانب آخر دولة عنصرية في العالم وهي إسرائيل التي مازالت تمارس أقصى حالات
العنصرية بحق الشعب الفلسطيني، وما بناء الجدار الفاصل الذي وقف مانديلا شخصيا ضد بنائه،
إلا دليل على عنصرية هذه الدولة التي زرعها الاستعمار في بلدنا وأرضنا العربية، ولا يمكن أن
ننسى وقوف مانديلا ضد غزو العراق ، ذلك الموقف الشجاع الذي سيسجله التاريخ له ، ولن
ننساه أبدا كعرب.
تبقى معاناة مانديلا شاهداً حيا على استمرار النضال في هذا العالم من أجل الحرية والخير
والعدالة، ولعل أهم ما نتعلمه منه هو ذلك الإصرار والأمل الذي يجب أن يتسلح به المرء وهو
يناضل من أجل الحرية، كما أنه يجب على المرء أن يسخر كل شيء من أجل نضاله وأن يكون
واعياً لحركة التاريخ وتكيكاته، وان يعمل دائما على معرفة عدوه وخصمه والبحث عن مكامن
الخير حتى عند الأعداء، ويتعلم المرء أن طريق الحرية طويل لا ينتهي أبدا وأن المعركة من
أجل الحب والحياة السعيدة هي نفسها المعركة من أجل الحرية التي كانت الهاجس الأكبر لمانديلا
: الرمز الحي للتاريخ البشري، وقلعة الحرية المضيئة على طول العالم، الرئيس الذي سيبقى في
ذاكرتنا كمثال حي للنضال ضد كل أشكال الهيمنة والاستبداد ، وستبقى كلماته زادا لنا لمواصلة
نضالنا من أجل العزة والكرامة والمستقبل. .. وداعا .. مانديلا
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.